بسطاء هم

كانت المنطقة المتاخمة لسوق الخضار المركزي في الخبر ديوانًا لطبقة من الأشاوس المخضرمين يعرفها من خالطها. تملؤها في النهار شاحنات المزارعين و سيارات (الكدادين) التي ستحمل غلتها من الخضار و الفاكهة لتباع أمام مساجد الخبر و ما جاورها من المدن. و في المساء يخلو المكان من المزارعين و زبائنهم ، فيخلوا المكان لأولئك الأشاوس و عالمهم.

تتخم مواقف السوق مساءً بكدادين من نوع آخر ، يأتي كل منهم بفناجيله و دلاله و كراسيه البلاستيكية البيضاء ليضرب في منتصف المواقف مجلسًا يبيع على زواره ما في دلاله من قهوة و شاي و حبق و نعناع هو دومًا من نعناع المدينة لسبب ما. و في بعض الأحيان ، قد تتوقف سيارة (فان) عائلية في صندوقها قِدر عظيم من (البليلة) بالكمون يبيعها السائق على الأشاوس. كان ذاك المكان بسيطًا ، و كان مرتادوه مثله.
.
بسطاء هم، لا يبتغون في لقياهم من متع الدنيا إلا مجالسة الأصحاب و ما يتحتم معها من شاي يساعد على ابتلاع ما في حديثهم من المبالغات. و هم أحفاد كهول(الدكة) الذين لا يمنعهم حر ولا برد ولا غبار عن مجلسهم على جوانب كل شارع. و هم أثابهم الله ممن (اللاتيه) عندهم ضرب من البذخ لا يقدر عليها إلا بقرض بنكي.

بقي المكان ملكًا لهؤلاء الأشاوس كل ليلة و ديوانًا لهم لا يصرفهم عنه صارف ، حتى كان أن اختير سوق الخضار المركزي هدفًا لأحد مشاريع التطوير. و بين ليلة و ضحاها ، صبغت جدرانه القديمة بألوان صارخة فاقعة غدت قبالها كراسي الأشاوس البيضاء المصفرة دخيلة على المكان. ثم زاحم سيارات كدادي الشاي في المواقف شاحنات طعام ضخمة يكلف مجرد النظر إلى قائمتها راتب شهر كامل للأشاوس. و تكاثرت هذه الشاحنات العملاقة حتى دفعت بالكراسي البيضاء إلى طرف الشارع ثم طردتها بالكلية لتسمي المكان بعدهم ب(فوود تركس سكوار).
.
طردت الكراسي البيضاء و طُرِد من كان عليها ، ليتشرذموا في الأصقاع حتى وجدوا بقعة أخرى يلجؤون إليها. استقرت تلك الكراسي اليوم في زاوية ضيقة على حافة الطريق العام، تبخرهم فيها عوادم السيارات و ينكه شاهيهم. و لكنهم مع ذلك مستمرون، صامدون، باقون على العهد ما بقي الليل و النهار، وذلك حتى يكتشف مكانهم هذا شاحنات أخرى أكبر و أغلى تطردهم منها لزاوية أضيق.
.
✍🏼 عمر الصغيّر (@omar_sug)
••••
عمر الصغيّر مدون و باحث سعودي من أبناء الخبر بالتبني. مهتم بتاريخ ثقافة المدن الشفوي المعاصر ، و يحاول جاهدًا سد ثغرة في التدوين البحثي الفصيح المطول في هذا المجال.

تاريخ النشر 27-09-2021