نشرنا حديثًا صحيحًا عن النبي ﷺ نصه "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، وجاءتنا ردود تستنكر أن يقول النبي ﷺ هذا، أو ترى أن النبي ﷺ حتى ولو قال ذلك فهو مخطئ، وكيف له أن يأمر بأن يعرض المؤمن نفسه للأذى ويلقي بنفسه إلى التهلكة؟وغير ذلك.
وهذه الرسائل تنبئ عن ظواهر صرنا نلاحظها بشكل متزايد. وهي كما يلي:
1. بعض الناس ليس لديه معرفة حقيقية بسيرة النبي ﷺ. فالنبي الذي عاش مدة البعثة كلها في ظلال من المؤامرات وسط المشركين في مكة والمنافقين في المدينة، هو ذاته الذي يأمر بمخالطة الناس وينهى عن الانعزال عنهم.
2. بسبب الاستقطاب التي تثيره وسائل التواصل الاجتماعي، صار الناس مفتقرين إلى القدرة على التفكير إلا بالأبيض والأسود. فالنبي إن أمر بالصبر على أذى الناس (وهو من طبائع الأمور، فهكذا هو العيش في الدنيا)، صار يأمر بإلقاء النفس في التهلكة. فلا يرى صاحب التعليق درجات بين هذا وذاك. وهذا أمر خطير لأن من يفكر بهذه الطريقة سيفقد قدرته على التفكير النقدي السليم تدريجيًا.
3. انتشر بين الأجيال الشابة فكرة اعتزال كل ما يؤذي، ورعاية النفس والصحة النفسية فوق كل شيء، وعدم مصاحبة كل من لا يدعم الإنسان في كل الحالات، وغير ذلك. وهذه الأهداف نبيلة ترمي إلى رعاية النفس ونُشدان السعادة، ولكنها تؤدي إلى الهشاشة التي تجعل الإنسان ميالًا إلى الاعتزال، سريع النقمة، يتوقع مثالية من الآخرين لا يستطيع هو نفسه أن يرقى لها، غير مدرك أن من أراد مخالطة الناس لا بد أن يصيبه شيء من عيوبهم، وهذا من الابتلاء الذي يزكّي النفس: كيف أتعامل مع عيوب الآخرين وكيف أنقي نفسي لئلا أتبعهم على الضلال وأرشدهم إلى الصواب؟
وحكمة النبي وافقها حكمة الشعراء، هذه الدعوة إلى مخالطة الناس على عيوبهم وإلا فالإنسان محكوم عليه بالعزلة بل والفناء:
يقول النابغة:
ولستَ بمُستبقٍ أخًا لا تلُمُّهُ... على شعثٍ، أيُّ الرجالُ المهذبُ؟
ويقول بشار:
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى... ظمئت وأيُّ الناسِ تصفو مشاربُه؟
وأخيرًا، فما نلاحظه هذه الأيام من الاعتراض المليء باليقين والجهل معًا هو عرَض لداء التفاهة الذي يغزو العالم، ونلحظ ذلك كثيرًا في المنشورات الداعمة للقضية الفلسطينية أو التي تعرض مقولات لآل البيت وموقفهم المناهض للظلم والطواغيت. مما يؤكد لنا أن كل دعوى صادقة، وخاصة الدعاوى الثورية والمقاومة إلخ، سيقابلها غيرة فارغة على الدين وادعاء أن هذا تشدد أو إثارة لفتنة وما إلى ذلك من كلام حق يراد به باطل والله المستعان.