عن جدوى شرح البديهيات
البَداهة لغةً هي أول كل شيء، وما يُفجَأُ به. واصطلاحًا، يستخدم هذا المصطلح في المنطق لوصف قدرة الإنسان على إدراك المعارف الضرورية (أو البديهيّة)، مثل معرفة أن الكل أكبر من الجزء، وأن النتيجة تأتي بعد السبب، فهذه أمور لا تحتاج إلى إنعام النظر أو الموازنة بين الأدلة.
ويُقال أن الشيء واضحٌ بالبداهة أو أنه بديهيّ على سبيل المجاز للمبالغة في وضوحه. ونجِد أن الفكر الإسلاميّ يُعامِل بعض القضايا ضمنيًا على أنّها من البديهيات أي أنها شديدة الوضوح لا تحتاج لكثرة جِدال واحتجاج، وأهم هذه القضايا معرفة الحق والباطل. على سبيل المثال، القُرآن يسمّي المعجزات والكتب السماوية "بيّنَات"، لأنها تكشف الحق واضحًا لا لبس فيه. ويقول تعالى: " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، أي أن الإيمان إذا تدبره الإنسان لا بد أن يجد الرشد، ولا يرفضه بعد ذلك إلا سفيه يدع الهدى إلى الضلال، ويفضل التخبط على الطمأنينة.
وفي نفس المعنى يأتي كلام أمير المؤمنين عليه السلام الجاري مجرى المثل: "قد بيّن الصبح لذي عينين"، وكذلك قول المتنبي:
وليسَ يصِحُّ في الأفهامِ شيءٌ... إذا احتاج النهار إلى دليلُ.
الحق إذًا بيّن، فكيف يغفل النّاس عنه؟ كيف، بعد مرور هذه السنوات لا يزال هناك الكثير ممّن يجهلون طبيعة المشروع الصهيو-أمريكي، ويغترّون بأكاذيب المنافقين، ويسيرون خلف الإعلام المشبوه؟
في خطاب الأمس، لماذا خرج الشيخ ن. ق. ليشرح من جديد أبجديات المقـ//ومة، تاريخها وجدواها، وليقول من جديد أن العدو له مشروع كبير لتغيير وجه المنطقة لصالحه، وأن هدفه إنهاء أي معارضة تهدد هذا المشروع، هل هناك من لا يزال بحاجة إلى سماع هذه البديهيات؟
في النظرية القرآنية، من أهم أسباب إنكار البشر للحق الواضح هو بسبب اتباع الهوى (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرّ) أو الفساد الذي يطمس البصيرة (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
عندما تسود هذه الحالة، تصبح الحجج الناصعة بلا جدوى. في مثل هذا المناخ، قد يشعر من يمارس جهـ//د التبيين أنه في غُربة لأنه يشعر بعدم فائدة محاولة إيقاظ الناس. قد يخاطبهم أحيانًا بالمرارة التي كان يشعر بها الإمام علي (ع) في أواخر أيامه، إذ يقول لأهل الكوفة: "أيها الناس، المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء... ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم؟".
ولكن الخطر في مثل هذه الحالة أن يظن القائم بدور التبيين أن الله يرضى أن يتخلّى عن دوره، أو أنه يعذره بأن ينعزل عن أمته ويلقي حبلهم على غاربهم. ولو كان ذلك جائزًا لما ظل أمير المؤمنين يعظ الناس حتى ذهب إلى جوار ربه، ولما ظل قادة هذا الخط يعيدون شرح مبادئهم من الألف للياء لمدة عقود بلا كلل.
المُصلحون العظام، من رسل وأنبياء وأئمة وأولياء وقادة، ليست مهمتهم هداية النّاس (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)، وإنما مهمتهم هي البلاغ، هي العظة وإقامة الحجة والشرح بأبسط الطرق وأوضحها، وضرب الأمثلة وسرد الأحداث التاريخية واستقاء العبرة. مهمتهم أن يكونوا شهودًا على النّاس، والمجتمع هو الذي يقرّر لنفسه بعد ذلك أيختار الهدى أم الضلال. ولأن الضلال يأتي كل ساعة متنكرًا في زي مختلف، كانت تعريته وكشفه على حقيقته تحتاج مثابرة وتكرار وتعهّد.
ولذلك، فإن مهمة التبيين لا تحتاج من يذهب مغضبًا إذا وجد الخلق منصرفين عن الحق، وإنما تحتاج من عنده استعداد أن يؤدي واجبه تجاه الأمة و"يلبث فيهم" حتى يستيقظ وعيهم أو يأتي الله بأمر من عنده.