ارتباط غزة بهاشم بن عبد مناف جد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ارتباطٌ أوثق وأعمق من مجرّد أن هاشمًا توفّي بغزة وهو في طريقه إلى الشّام، فدُفِن بها وله ضريح هناك، ولذلك يُقال للمدينة "غزة هاشم" نسبة إليه. ولكن شخصية هاشم وما كان يُعرف به في حياتِه، هذا هو الارتباط الأهم بين هذا الرجل العظيم، جد النبي الأعظم، وبين المدينة العظيمة، مجدّدة الدين الأعظم.
الاسم الأصلي لهاشم هو عمرو، ثم اكتسب خلال حياته ثلاثة أسماء كلها راجع إلى كرم منشأه وعلو همّته.
فسمي هاشم لأنه هشم الثريد لقومه بمكّة وأطعمهم في زمان مجاعة
وسمي هو وأخوه المطلب "البدران" لجمالهما
وسمي هو وإخوته "المُجَبِّرون" لأن الله جبر الله بهم قريشًا، أي أصلحهم وجمع كلمتهم
وسبحان من اختار له غزة مدفنًا ومستقرًا، فما أشبهه بها وأشبهها به وبأسمائه الثلاثة...
فاسم هاشِم أُطلق عليه لأنّه ارتقى بنبله وحرصه على قومه على ما تفرضه المجاعة من أخلاقيات، حيث ينشغل كل إنسان بهمّ نفسه، بل ربّما أكل الناس بعضهم بعضا وكان المحنة سببًا في الاقتتال والانهيار الكامل للمجتمع، لكن هاشم سمَا فوق ذلك وأبى أن تفسد المحنة شرفه وحرصه على قومه.
ورغم المعاناة والأسى والحصار، كم طالعتنا مشاهد العطاء والإيثار لدى أهل غزة وحنوّهم على بعضهم البعض، بل حتى على الحيوانات التي عضّها الجوع، فبقدر ما اشتد الألم، اشتد العطاء. وبقدر ما راهن العدو على أن الحصار سيُجبِر الناس على السقوط الأخلاقي، بقدر ما ازداد رقيّ أهل غزة وثباتهم وتمسّكهم بمبادئهم ونُبلهم. فكانوا كهاشِم في سموِّه رغم الجوع والشِّدّة.
(ويليق في هذا المقام أن نذكّر أن الدقيق الذي اشتراه هاشم لينقذ به أهل مكة، إنما اشتراه من فلسطين لا غيرها، في رمزية لا تخفى عن أفضال فلسطين التي لم تنقطع عن هذه الأمة حتى من قبل أن تصبح أمة وإلى يومنا هذا، وفي إشارة حزينة أيضًا أن هذه الأرض التي مُنِعت من اللقمة، طالما أغاثت الجائعين)
واسم البدر أطلق على هاشم لجماله. والجمال من أدق ما يوصف به أهل غزة، لا فقط في صباحة الوجوه وحسن المحيّا والمنطق والهندام، الأمر الذي كان يغيظ الصهاينة إلى أبعد مدى لأن أهل غزة ما زالت لهم نفس الطلّة البهيّة رغم الدمار وويلات الحرب. ليس هذا فقط. وإنما الجمال الذي نقصده هو جمال الفطرة السليمة الذي يملأ القلب فيفيض على الوجه، هو جمال القِيَم التي لا تفيها الكلمات حقها، الوفاء والاستقامة والثقافة والتفاؤل والجِدّ وما شئت من الفضائل، بهاء كبهاء البَدْر وسط الليل الدامس.
واسم المُجبِّر أطلق على هاشم لأنه وأخوته جبروا قومهم، فجمعوا شملهم وأعزّوهم. وهذا اللقب لا نحتاج فيه كلامًا كثيرًا، ألم تخرج المقـ..اومة في غزة أصلًا للم شمل عائلات الأسرى وتبييض السجون؟ ألم تجبر غزة الشرخ العميق الذي كان يفصل الملايين من أبناء هذه الأمة وبناتها عن عقيدتهم وعن مقدساتهم وتاريخهم؟ ألم تصلِح غزة ما أفسدته المؤامرات الكونية على الإسلام والعروبة، وأعادت البوصلة إلى وجهتها الصحيحة؟ عندما يُجبر كسر أمتنا في المستقبل القريب إن شاء الله بتحرير الأقصى، لن يُنسى لغزة أنها كانت المُجبِّر الأول للأمة، تمامًا كما كان هاشم لقريش.
فكأن الله تعالى اختار أكثر بلاد الله شبهًا بهاشم بن عبد مناف ليُدفن فيها، وكأنه سبحانه وتعالى اختار لجوار ضريح هاشم شعبًا هو أولى الناس بوراثته، خلقًا عظيمًا في زمان الجاهلية، وبدرًا منيرًا في زمان الظلام، ومجبرًا في زمان الانكسار والمحنة، فلله درّك يا غزة هاشم، ولله درّ أهلك.



